الفَصلُ الثانِي ....: أيُّ شَيْءٍ هـذا ؟!
وَأسألُ نفسِي كَثِيرًا : أيُّ شَيْءٍ هَذَا ؟! ؛ وَأغِيبُ مَعَ مَاضٍ سَرَقَ الزَّمنُ أحدَاثهُ مِنِّي بِغَمضَةِ عَينٍ وَكَأنِّي مَا كُنتُ مِن أبنَاءِ هَذَا المَاضِي وَمَا كُنتُ حَامِلاً لِنَفسٍ تَطمَحُ وَتُحِبُّ وَتُرِيدُ وَتَرغَبُ ، وَكَأنهُ كَانَ يَهزَأُ بِي إِذ يحَرِمُنِي مِن أقَلِّ حُقُوقِي ؛ وَأعُودُ أسألُهُ : أيُّ شَيْءٍ هَذَا ؟ وَأغِيبُ مَعَ حَاضِرٍ يَقتُلُنِي كُلَّ يَومٍ ؛ إِذ يُرسِلُ إِلَيَّ بِنَدَّاهَةِ الأمَانِي مِن أجلِ أن يَسرِقَ هَذَا العُمُرَ الَّذِي ضَاعَ أوَّلُهُ عَلَى عَتبَاتِ التَّمنِّي وَمَا زَالَت البَقِيَّةُ الْمُتبَقِيَّةُ مِنهُ تَقِفُ هُنَاكَ عَلَى رَصِيفِ الآمَالِ العَجِيبَةِ ، فَكَأنِّي لَستُ بِإِنسَانٍ لا يَجُوزُ لَهُ مَا يَجُوزُ لأمثَالِهِ مِن لِدَاتِهِ الَّذِينَ عَاشُوا الحَيَاةَ بِطَرِيقَةِ أبنَاءِ الحَيَاةِ .
رُبمَّا كَانت العِلَّةُ رَاجِعَةً إِلَى الأيامِ وَإِلَى هَذِهِ النَّفسِ أيضًا ؛ فَالأيامُ فَعَلَت فِعلَهَا بِعَهدِهَا الأوَّلِ ، وَجَاءَت نفسِي لِتَصنَعَ الغَرَائِبَ بِالعَهدِ الأخِيرِ ، فَأنا قَتِيلُ الأيامُ ، وَأنا أسيرٌ حَائِرٌ مُشَوَّشٌ دَائِمًا أبدًا بالنِّصفِ الثَّانِي مِن حِكَايةِ هَذِهِ الرِّحلَةِ ؛ وَيكَأنِّي ألِفتُ قِصَّةَ العَجَائِبِ لأظَلَّ ضَائِعًا بَينَ أرجَاءِ عَالَمٍ يُشعِرُنِي أننِي أملِكُ حَيَاةً تَستَحِقُّ مَلامِحَ الدَّهشَةِ وَسُطُورَ رَوعَةِ العَجَبِ ، لَعَلِّي أدمَنتُ أن أكُونَ حِكَايةً مُثِيرَةً لِشَغَفِ الفُضُولِ عِندَ أربابِ الأدَبِ حِينَمَا يَمُرُّ زَمَنٌ وَتَمضِي عُقُودٌ فَيَقرَأُنِي قَومٌ كَمَا أقرَأُ
( جُبرَان خَلِيل جُبرَان ) في هَذِهِ الأيامِ الحَالمِةِ .
وَمَهمَا يَكُن مِن أمرٍ ؛ فَمَا تستَقِرُّ بِالْمَكَانِ إِلاَّ مَن جَاوَزَت حُدُودَ الإِمكَانِ ؛ لأظَلَّ حَيًّا في قَلْبِ مَوتِي وَفَرِحًا في دُنيَا أحزَانِي ، وَحَالِمًا بِعَالَمِ قَسوَةِ عَقلِي الَّذِي آنسَ وَحشَةَ الزَّمَنِ فَآمَنَ بِغُربَتِهِ حتَّى تَعشَّقَهَا فَمَا يُرِيدُ بَدِيلاً ؛ إِلاَّ إِذَا مَا جَاءَت هَذِهِ الرُّوحُ الَّتِي تُعِيدُهُ إِلَى دُنيَا الأحلامِ وَالرُّؤى فَإِذَا بِهِ يُعَانِقُ الحُبَّ كَمَا كَانَ يَتَمنَّى لا كَمَا يَفرِضُهُ ذَلِكَ الوَاقِعُ السَّمِجُ .
وَقَد كَانَ !
أتدرِي مَا هُوَ الَّذِي قَد كَانَ ؟
في غَفلَةٍ مِن غَفَلاتِ وَاقِعٍ صَارِمٍ غَلِيظٍ لا يُؤمِنُ إِلاَّ بمِا يُقِرُّهُ قَانونُ الآلَةِ ، وَإِن كَانت هَذِهِ الآلَةُ تخُرِجُ إِلَينَا بَدَائِعَ الأشيَاءِ ، وَإِن كَانَ هَذَا القَانونُ قَادِرًا عَلَى تَنظِيمِ حَيَاتِنَا وَالسَّيرِ بهِا بَعِيدًا عَن مَشَاهِدِ الضَّعفِ وَالانحِدَارِ إِلَى هُوَّةِ الذُّبولِ المُخِيفِ .
في غَفلَةٍ مِن غَفَلاتِ هَذَا الوَاقِعِ جَاءَت هَذِهِ المَرأةُ فَإِذَا بِي وَقَد خَرَجتُ مِن دَربِ القُوَّةِ المَغِيظَةِ المُغتَاظَةِ الَّتِي احتَوَشَهَا السَّأمُ وَالضِّيقُ وَالضَّجَرُ إِلَى دَربِ الْخَيَالِ القَوِيِّ الَّذِي لا يَحُولُ بَينَكَ وَبَينَ الحَيَاةِ العَامِلَةِ المُوَجَّهَةِ بِفِعلِ العَقلِ الوَاعِي وَإِنمَّا يُثبِّتُكَ عَلَى الطَّرِيقِ مِن بَعدِ أن يَقهَرَ عَوَامِلَ المَوتِ الحَيِّ الَّذِي هُوَ السَّأمُ وَالضِّيقُ وَالضَّجَرُ ؛ فَإِذَا أنتَ قُوَّةٌ مُجنَّحَةٌ تَندَفِعُ نَحوَ الحَيَاةِ وَكَأنهَّا خُلِقَتْ خَلْقًا جَدِيدًا فَهِيَ تَعمَلُ عَمَلَهَا المحَسُوسَ وَتَجِدُّ وَتَنصَبُ مِن أجلِ أن تَبنِي عَالَمًا وَاقِعِيًّا مِنَ الْخَيَالِ الْجَمِيلِ مِن بَعدِ أن كَانَ العُمُرُ عَمَلاً مِنَ العَمَلِ مِن أجلِ العَمَلِ ... وَمَا أجمَلَ أن يَكُونَ الفَنُّ مِن أجلِ الحَيَاةِ لا مِن أجلِ الفَنِّ في نَفسِهِ حتَّى وَلَو كُنتَ في فنِّكَ أخلاقِيًّا نَبِيلاً وَمُنَظِّرًا فَذًّا وَمُصلِحًا خَطِيرًا رَائِعًا .
جَاءَت هَذِهِ المَرأةُ يَومَ جَاءَت ؛ فَإِذَا بِي أقِفُ كَمَن مَسَّهُ الشَّيطَانُ بمِسٍّ فَهُوَ يَتَخبَّطُ لا يَدرِي أينَ هُوَ ، وَإِذَا بِي كَمَن ضَمَّهُ المَلَكُ ضَمَّةً فَإِذَا بِي أقبِضُ عَلَى كُلِّ هَذَا الكَونِ بِكَفٍّ وَاحِدَةٍ لأشُمَّ عِطرَ الوجُودِ وَأنظُرَ إِلَى جَمَالٍ مَا خِلْتُهُ يَكُونُ بِعَالَمِنَا هَذَا .
وَكُنتُ أُبصِرُهَا تَرتجَفُ وَترتعِدُ كُلَّمَا أمسَكتُ بِكَفِّهَا وَنحَنُ نَجلِسُ هُنَاكَ بِالْخُلْوَةِ المَشهُودَةِ تَحتَ أشجَارِ مَدِينَةِ النَّخِيلِ الوَاقِفَةِ بِأعلَى القَاهِرَةِ القَدِيمَةِ بجِوَارِ مَنطِقَةِ مَسجِدِ الإِمَامِ الحُسَينِ وَالأزهَرِ الشَّرِيفِ .
كَانت تَرتَعِدُ وَترتجَِفُ فَأعرِفُ أنهَّا رَغبَةُ الأُنثَى في هَذَا الَّذِي تهَوَى وَكَانَ يَحدُثُ مَعِي أكثرَ مِمَّا أحُسُّهُ بِهَا فَأُغيِّرُ الحَدِيثَ حِفَاظًا عَلَى مَكَانتِهَا وَجَلالَتِهَا عِندِي ، وَلأنِّي أعلَمُ أنهَّا امرَأةٌ تَرَى لِنَفسِهَا وَجَاهَةً خُلُقِيَّةً فَوقَ كُلِّ النِّسَاءِ ، وَلَستُ أُجِيزُ لِنَفسِي تحَطِيمَ عَهدِنَا عَلَى النَّقاءِ بِسَاعَةِ ضَعفٍ وَنحَنُ بَينَ النَّخِيلِ لا يُبصِرُنَا أحَدٌ وَلا يَرَانا عَابِرٌ ، فَكُنتُ أُفلِتُ يَدِي لأترُكَ كَفَّهَا كَى لا أشعُرَ بهِذَا الَّذِي يحُاصِرُنِي ويحُِيطُ بِهَا ثمَّ أدلِفُ إِلَى حَدِيثٍ جَادٍّ أو مَازِحٍ لأُعكِّرَ عَلَى الرَّغبَةِ الَّتِي لا يَجُوزُ السَّيرُ مَعَهَا ؛ لأنهُ لَم يَأتِ زَمَنُهَا وَلَم يَطِب بَعدُ مَكَانهُا ، وَمَا أحقَرَ عَقلَ امرِيءٍ يَبِيعُ ثَمِينًا بِرَخِيصٍ ، وَإِنَّ مِن حِكمَةِ العَاشِقِ أن يَضَعَ تَحتَ حِذَائِهِ مُتعَةَ الدَّقَائِق ، مِن أجلِ دِيمُومَةِ جَمَالٍ يَرتقِي فَوقَ لَهفَةِ الطَّائِشِ وَمُخَاتَلَةِ السَّارِق .
وَإِذَا بِرَاحَةِ هَذِهِ السيِّدَةِ السُّورِيَّةِ وَقَد أحسَستُهَا فَوقَ كَتِفِي ، وَإِذَا بِصَوتهِا الحنُونِ يُخرِجُنِي مِن حَيرَتِي :
( لَعَلَّ اللهَ أن يحُدِثَ بَعدَ ذَلِكَ أمرًا ؛ فَقُم بِنَا يَا محُمَّد )
من روايتي ( السُّطور التي مسّها الجنُّ )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق