الخميس، 26 أبريل 2018

الفصل الثالث من رواية السطور التى مسها الجن ... للكاتب محمد دحروج

الفصل الثالث : تحسَّست آثاره 

   أجمَلُ شَيْءٍ أحسَبُهُ يُميِّزُ عَقلِي أننِي اعتَدتُ مُلاقَاةَ الغَرَائِبِ بِنَظرَةٍ هَادِئةٍ  فَمَا عُدتُ أجزَعُ كَمَا كَانَ حَالِي في العَهدِ القَدِيمِ ، مَا عُدتُ أبكِي  عَلَى  رَاحِلٍ  أرَادَ أن يَذهَبَ  وَأن يُغَادِرَ ؛ عَلَّمَتنِي الْحَيَاةُ في القَاهِرَةِ  تِلكِ المَدِينَةِ الكَبِيرَةِ أن أكُونَ مَنطِقِيًّا أنِيقًا مِن بَعدِ أن كُنتُ انفِعَالِيًّا  حَالِمًا ، عَلَّمَتنِي  أن أُعَايشَ الْحَيَاةَ بِنَظرَةِ مَن يحُاصِرُهُ المَوتَ لأصنَعَ مِنَ الحَيَاةِ الصَّغِيرَةِ عَالَمًا أكبرَ وَأوسَعَ مِن بَعدِ أن كُنتُ أُبصِرُ البَعثَ الْجَدِيدَ بِعُيُونِ ميِّتٍ  فَإِذَا بِالرَّجَاءِ  وَقَد ارتدَّ يأسًا لأنِّي كُنتُ أُؤمِّلُ  في الأُمُورِ وَالأقدَارِ  بِصُورَةٍ طُفُولِيَّةٍ سَاذَجَةٍ ؛ وَتِلكَ نظِرِيَّةٌ لا يَصِلُ إِلَيهَا  إِلاَّ مَن مَاتَ مَوتًا حَقِيقِيًّا  ثمَّ أرَادَ اللهُ أن يَعُودَ إِلَى الدُّنيَا مِن جَدِيدٍ فَإِذَا بِهِ لا يَعثُرُ عَلَى كَثرَةِ الأحجَارِ بِطَرِيقٍ مُظلِمٍ بَينَمَا يَقَعُ الكَثِيرُونَ  عَلَى وجُوهِهِم وَأقفِيَتِهِم  في ضَوءِ النَّهَارِ بِطَرِيقٍ مُذَلَّلٍ غَيرِ مُتَنَاكِدٍ .
   هَا أنا أكتُبُ  هَذَا الكَلامَ  الآنَ وَأنا بَعِيدٌ  كُلَّ البُعدِ عَن أحدَاثِ هَذِهِ القِصَّةِ ، هَا أنا أكتُبُ الآنَ  وَفجرُ السَّادِسِ وَالعِشرِينَ مِن إِبرِيل 2018 يَتهيَّأُ لِلقُدُومِ .. قَد لا يُصَدِّقُ أحَدٌ أننِي أكتُبُ الآنَ وَأنا أعتَصِرُ مِن كَمَدٍ  وَأتمَزَّقُ مِن قَسوَةِ هَمٍّ ؛ فَإِنَّ استِحضَارَ تَارِيخٍ بائِسٍ غَرِيبٍ يَحمِلُنِي  عَلَى البُكَاءِ ، وَأنا رَجُلٌ  لا يُحِبُّ أن يَبكِي ؛ وَلِذَا فَمِحنَةُ الشُّعُورِ بِالألَمِ  لَدَى فَتىً  اعتَادَ أن يَقهَرَ عَينَيهِ  فَلا يجَرِي مَا بهِمَا مِن دَمْعٍ حَبِيسٍ  لَهِيَ مِحنةٌ  لا يَدرِيهَا إِلاَّ كُلُّ جبَّارِ العَقلِ رَقِيقِ الحَاشِيَةِ وَالطَّبعِ ، وَأشَدُّ المِحَنِ مِحنةُ التَّخالُفِ بَينَ فُؤادٍ وَعَقلٍ .
   كَم هِيَ قَاسِيَةٌ هَذِهِ الحَيَاةُ !
   نعَم ؛ وَبِرَغمِ قَسوَتِهَا فَدَائِمًا مَا تَجِيءُ الحُلُولُ مِن جَوفِ المَشَاهِدِ الْحَاطِمَةِ لِشُعُورِ الإِنسَانِ  مَهمَا كَانت صَلابتُهُ  وَمَهمَا كَانَ صَبرُهُ ؛ فَكَم مِن ألَمٍ دَامٍ دَاوَينَاهُ بِالإِهمَالِ فَطَبَّ وَعَادَ إِلَى أوَّلِ أمرِهِ فكَأنهُ مَا كَانَ ، وَكَأنهُ لَم يُوجَدِ .

*****  

   في تَمَامِ  السَّادِسَةِ  مِن مَسَاءِ الخَمِيسِ ـ مُنذُ أشهُرٍ طَويلَةٍ مَضَت ـ بِشَارِعِ وَادِي النِّيل بحِيِّ المُهَندِسِينَ بِالقَاهِرَةِ كَانَ مَوعِدُنا ، هُنَاكَ وَلا هُنَاكَ هُنَاكَ كَانت دَهشَةُ الهَذَيان ، وَالْتَقَينَا ، كَانَ قَلبِي كَقَلْبِ صَبِيٍّ في يَومِ عِيدٍ ، وَمَا كُنتُ أدرِي لِهَذَا مِن سِرٍّ  سِوَى أنِّي عَشِقتُ هَذِهِ المَرأةَ حتَّى رَأيتُ صَخَبًا بِأضلُعِي وَجَنبَاتِ نفسِي يَدُلُّنِي أننِي لَم أتحَوَّل إِلَى جَسَدٍ يحَمِلُ قَلبًا مِن حَجَرٍ كَمَا كُنتُ أظُنُّ .
   وَفَجأةً رَأيتُهَا أمَامِي ! 
   هِيَ : كَيفَ حَالُكَ يَا محُمَّد ؟
   قَالَتهَا بحُِزنٍ صَامِتٍ تحَسَّستُ آثَارَهُ مِن بَينِ هَذِهِ المَلامِحِ الجَمِيلَةِ .
   هُوَ : الحَمدُ للهِ ، أنا بِخَيرٍ ، فَكَيفَ أنتِ  ؟ 
   هِيَ : لا بأس 
   هُوَ : إِنَّ سِرًّا بِكِ أرَاهُ حَبِيسًا يُرِيدُ أن يخَرُجَ !
   هِيَ : نعَم ، فَلْنَختَر مَكَانًا نَجلِسُ بِهِ فَإِنِّي أُرِيدُ أن أقُولَ لَكَ كَلِمَةً 
        مُهِمَّةً .
   بَعدَ أن هَدَأ المَجلِسُ وَرَأت أننِي أُنصِتُ لَهَا أُرِيدُ أن أقِفَ عَلَى هَذَا الخَبِيءِ الَّذِي يَستَتِرُ خَلْفَ ضَمِيرِ نَفسِهَا بدَأ حَدِيثٌ مَا كُنتُ أحسَبُهُ يَكُونُ !
   هِيَ :  أتعلَمُ يَا محُمَّد كَم هُوَ عُمُرِي ؟ 
   هُنَا عَلِمتُ أنَّ ثَمَّةَ أمرًا يَجِيءُ ! 
   هُوَ : وَكَيفَ لا أعرِفُ !
   هِيَ : اسمَعنِي جيِّدًا ... أنا لا أُنكِرُ أننِي تعَلَّقتُ بِكَ ؛ غَيرَ أنِّي آمَنتُ أننَا نَسِيرُ بِطَرِيقٍ لا بُدَّ أن يَنتَهِي الآن ... إِنِّي أعلَمُ أنَّ بِكَ جُرحًا قَدِيمًا مَا يَزَالُ يَنهَشُ  أوصَالَ وجدَانِكَ ؛ وَأنا أُحِبُّ  أن أُحَافِظَ عَلَيكَ وَلا أُحِبُّ خَسَارَتك ؛ وَلِذَا فَيَجِبُ أن يَنتَهِي هَذَا الَّذِي نحَنُ بِهِ فَإِنَّ الأمرَ سَتَكُونُ عَاقِبتُهُ مَذمُومَةً لَوْ ترَكتُ نفِسي لمِشَاعِرِي وَسِرتُ خَلْفَكَ ، وَأنتَ أيضًا تُؤذِي نفسَكَ ... أتفهَمُنِي جيِّدًا يَا محُمَّد  ؟  
   في هُدُوءٍ غَرِيبٍ ابتَسَمَ لَهَا ، كَانَ قَلبُهُ قَد تَحوَّلَ فَجأةً إِلَى فُحمَةٍ غَيرَ أنهُ آمَنَ أنَّ الْحُبَّ الجَمِيلَ هُوَ الَّذِي يَتشبَّثُ بِهِ وَلَيسَ مَن يُغَادِرُهُ فَيُجبرُهُ تَحتَ قُوَّةِ العَاطِفَةِ  عَلَى أن يَمكُثَ ؛ فَإِنَّ المُكْثَ بهِذِهِ الحَالَةِ إِنمَّا هُوَ البَقَاءُ المُؤقَّتُ  الَّذِي تَنكَسِرُ  صَخرَةُ إِيمَانِهِ  مَعَ أوَّلِ ضَربةٍ مِن مِعوَلٍ ... لَقَد عَلَّمَ نفسَهُ كَيفَ يَمُرُّ عَلَى التَّجَارِبِ مُرُورَ الصَّبرِ الَّذِي لا يَعرِفُ الجَزَعَ وَأن يُجَاوزَ دَربَ الأسَى لِيَخرُجَ جِهَةَ الأمَلِ الجَدِيدِ الَّذِي لا بُدَّ أن يَقَعَ ... لَقَد عَلَّمَ نفسَهُ كَيفَ يُطِبُّ مَا بِهِ مِن ألَمٍ . 

   هُوَ : لا عَلَيكِ ، أنا آسِفٌ عَلَى مَا كَانَ مِنِّي ، سَأظَلُّ مُؤمِنًا أنَّ هَذَا 
الَّذِي كَانَ بَينَنَا إِنمَّا هُوَ آيةُ صِدقٍ وَعِشقٍ اجتَمَعَا مَعًا وَسَأظَلُّ عَلَى يَقِينٍ مِن صِحَّةِ مَنطِقٍ سَمِعتُهُ مِنكِ وَمِن صَوَابِهِ .
لَقَد انتَهَى مَا بَينَنَا ، وَأمَّا الصَّدَاقةُ فَلَستُ أتنَكَّرُ لمِن قَد أحبَبتُ ذَاتَ يَومٍ فَفَارَقَ وَهُوَ رَاقٍ جَمِيلٌ ... أسألُ اللهَ أن يُسعِدَ قَلبَكِ الطيِّب .

   ثمَّ قَامَ فَانصَرَفَ . 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق