آخر فصول الجزء الثاني من رواية ( أحداث ليلة الفضول )
مَـنَـعـتُ لِـسَـانَ أسـئِـلَـتِي
ـ 57 ـ
وَكَانَ اللَّيْلُ قُدَّاسًا لأوْرِدَتِي
وَكَانَ الحُلْمُ لا يَغفُو مِنَ
الوَجَعِ
رَفَعتُ نِدَاءَ أيامِي وَمَرْثِيتِي
أُعَانِقُ شَهْقَةَ الحِرمَانِ
وَالفَزَعِ
وَجِئْتُ أُلَمْلِمُ الرُّؤيَا
رَأيْتُ الحَظَّ لَم يَسقُط
وَلَم يَقَعِ
وَرُحتُ أُدَافِعُ الأوجَاعَ
أنزَحُهَا
كَنَزْحِ المَاءِ مِنْ فَوقِ
الخُدُودِ سَرَى
رَأيْتُ العِشقَ أُغنِيَةً
وَمَا تُبْصِرْهُ أفئِدَةٌ
وَلَكِنَّ العُيُونَ تَرَى
وَعَاشَ الحُبُّ في رِئَتِي
أُدَندِنُ حَولَهُ سَغِبًا
وَأشكُوهُ بِجَوفِ عَرَا
وَرُحتُ أعُدُّ أقلامِي
عَسَاهَا تَرصُدُ الوَاقِعْ
وَجَاءَ صَدَاهُ مِن زَمَنٍ
كَمَنزُوعٍ بِلا نَازِعْ
يُخَبِّرُ أننِي هَدَفٌ
لِسَهْمٍ جَاءَ كَالجَائِعْ
أصَابَ بِفَجأةٍ كَبِدِي
وَقَالَ : شَرِيعَةُ الشَّارِعْ
بِأنْ تُغتَالَ عَنْ عَمَدٍ
لِيَصْمُتَ خَطْوكَ البَارِعْ
مَنَعْتُ لِسَانَ أسئِلَتِي
وَلَم أسْألْ عَن الدَّافِعْ
وَسِرْتُ مُفَوِّضًا قَدَرِي
فَتِلْكَ مَشِيئَةُ الصَّانِعْ
.......
انـفـِصَـالٌ عَــن الأحـدَاث
صَـوتُ هَـذَا الكَـــرَوَان
ـ 58 ـ
هَا أنا قَبلَ فَجرِ اللهِ بمُِنتَصَفِ إِبرِيل 2018 ... أجلِسُ بجِانِبِ النَّافِذِةِ أكتُبُ وَأكتُبُ ، أغِيبُ عَن هَذَا العَالَمِ البَشَرِيِّ الزَّائِفِ ، وَفَجأةً سَمِعتُ صَوتَ الكَرَوَانِ وَهُوَ يَملأُ صَمتَ هَذَا الكَونِ لِيَعُودَ بِي إِلَى زَمَنٍ لَم أستَطِع أن أُفلِتَ مِنهُ ، لأنهُ زَمَنُ الفِطرَةِ وَالسَّذَاجَةِ وَالطَّبِيعَةِ الأُولَى ، لأعُودَ إِلَى عَامِ 1987 ، في هَذَا الزَّمَنِ حَيثُ كَانَ الغَيبُ يَطوِي عَن نَظرَتِي ووجدَانِي مَا سَيَكُونُ بَعدَ ثَلاثِينَ سَنَة ، فَكُنتُ هُنَاكَ طِفلاً لَمْ يَكبُر ، طِفلاً لَم تُعكِّر نَفسَهُ آفَاتُ هَذِهِ الحَضَارَةِ .
وَآهٍ مِن هَذِهِ الحَضَارَةِ وَآهٍ مِمَّا أنتَجَت !
لَم أكُن يَومَئِذٍ في حَاجَةٍ إِلَى قِرَاءَةِ كُتُبِ أُدباءِ السُّمُوِّ الإِنسَانِيِّ وَأربَابِ الحَدِيثِ عَن جمَالِ الوجُودِ الأوَّلِ ؛ فَقَد كَانَت الطَّبيعَةُ تجُسِّدُ ذَلِكَ حَقِيقَةً لا سَطرًا مُزيَّفًا مَهمَا رَامَ لا يُصَوِّرُ ... هُنَاكَ حَيثُ كُنتُ غَضًّا طَرِيًّا نَقِيًّا لَم تُلَوِّث أفكَارِي وَمَشَاعِرِي هَذِهِ الدُّنيَا الَّتِي أتَت بَعدَ ثَلاثِينَ سَنَة ، لَم أقدِر إِلَى يَومِي هَذَا أن أستَوعِبَ مَعنَى حَقِيقَةِ وجُودِي الآنَ ... أأنا هَذَا الأدِيبُ الَّذِي عَاشَ هُنَاكَ لِسَنَوَاتٍ فَقَاتَلَ وَحَارَبَ وَأذَلَّ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ وَأخضَعَ العُقُولَ ، وَعَشِقَ حتَّى مَلَّ ، وَانتَشَرَتْ كُتُبُهُ وَمَقَالاتُهُ فَمَا يَكتُبُ شَييئًا حتَّى يُسَارِعَ النَّاشِرُونَ إِلَى نَشرِهِ ، وَكَتَبَ عَنهُ النَّاسُ في دُنيَا الأدَبِ وَأُولِعُوا بِذَلِكَ حتَّى لَكَأنِّي تعويذَةٌ لا تَخِيبُ ؟!
أهَذَا هُوَ أنا ؟!
نَعَم هُوَ أنا ، وَجَلَّ مَن بَرَانِي ، وَللهِ حِكمَةٌ مِن وَرَاءِ خَلقِهِ إِياي .
لَكِنِّي في نِهَايةِ الأمرِ مَا كُنتُ أُرِيدُ هَذِهِ الْحَيَاةَ ، نَعَم مَا كُنتُ أُرِيدُهَا .
مَا كُنتُ أُرِيدُ حَيَاةً لا يُقبِلُ عَلَيهَا إِلاَّ كُلُّ ضَعِيفِ العَقلِ فَاقِدٍ لِلحِكمَةِ ، وَمَا أقبَلتُ عَلَيهَا إِلاَّ لأننِي كُنتُ مجُبَرًا ، وَلَوْ وَجَدتُ قَبلَ خُرُوجِي إِلَيهَا مَا يُقِيمُ أمرِي لَرَضِيتُ بِالكَفَافِ وَمَا خَرَجتُ ، وَتِلكَ حِكمَةٌ عَجِيبَةٌ ، يُعطِي الولايةَ لِمَن لَم يَنظُر إِلَيهَا وَيُحرَمُهَا مَن قَاتَلَ مِن أجلِهَا ... غَيرَ أنِّي لا أُخرِجُ مِن يَدِي مَا وَصَلَ إِلَيهَا إِلاَّ بِالحَقِّ ، وَالحَقُّ في هَذِهِ الأرضِ مَعدُومٌ ، فَقَدَرِي أن أُقَاتِلَ دِفَاعًا عَن هِبَةٍ إِلهِيَّةٍ وَلَستُ أنا مَن يَنزَعُ عَن نَفسِهِ قَمِيصًا قَمَّصَنِيهِ اللهُ وَالقَدَرُ .
لَكِنِّي في النِّهايةِ أكرَهُ نَفسِي !
نَعَم أنا أكرَهُ نَفسِي لأننِي مَا زِلتُ أحُنُّ إِلَى ابنِ عَامِ 1987 ، أحُنُّ إِلَى هَذَا الصَّبِيِّ الطيِّبِ الْحَالِمِ عَلَى مَا يَنتَابُهُ مِن أفكَارٍ مُخِيفَةٍ تَدُلُّ عَلَى طَبِيعَتِهِ العَصَبِيَّةِ .
فَهُوَ يَسألُ القَمَرَ عَن هَؤلاءِ العُظَمَاءِ الَّذِينَ مَرُّوا مِن هُنَا في غَابِرِ الأزمَانِ ، وَهُوَ يَنظُرُ إِلَى النُّجُومِ يُطَالِبُهَا أن تُحَدِّثهُ عَن قَدَرِهِ الَّذِي يَكُونُ إِذَا مَا مَضَت السُّنُونُ ، وَهُوَ يَرقُبُ في اللَّيلِ شَيطَانَ القِندِيلِ ، وَيُنصِتُ إِلَى عِوَاءِ الذِّئبِ إِذ يَختَرِقُ اللَّيلَ السَّاكِنَ يُرِيدُ أن يَعرِفَ أنيَابُهُ مَن مَزَّقَت مِن أهلِ النُّبلِ وَالطُّمُوحِ وَأهلِ الوضَاعَةِ وَالظُّلمِ ، وَيمَضِي خَلفَ ثعَابِينِ الظَّهِيرَةِ يَتَأمَّلُ مَن مِنهَا يَسكُنُهُ الجِنُّ .
يَزعُمُ النَّاسُ أنهُ لا يجُيدُ العِشقَ ، وَقَد جَهِلُوا أنَّ مَن يَكرَهُ وَاقِعَهُ لا يَقدِرُ عَلَى عِشقٍ شِيْءٍ مِن مُفرَدَاتِ هَذَا الوَاقِعِ .
مَا زِلتُ مَأسُورًا هُنَاك ... بَينَ جُدرَانِ زَمَنٍ لا أُحِبُّ أن أُفَارِقَه .
.......
هَـذِهِ الـرِّيـبَـةُ بـِنتُ الـظُّــلُـمَـات
ـ 59 ـ
هَذِهِ الرِّيبَةُ في نَفسِي بنتُ الظُّلُمَاتِ ... أنتَجَتهَا صَرخَةُ الْمَوجُوعِ مِن قَلبِ الشَّتاتِ / هِيَ دَمعِي وَدُمُوعِي بَعضُ أسرَابِ المِدَاد ... ذلِكَ العُمْرُ الجَرِيحُ أرَاهُ يَمضِي لِلنَّفَاد .
لا تَسَلنِي كَيفَ صِرتَ اليَومَ مِن بَعدِ الْجَمَالِ المُشتَهَى ... كُنتُ شَيئًا ذاتَ يَومٍ قَد زَهَا .
إِننِي المَطعُونُ لَم يُسعِفنِي طِب ... لا تَسَلنِي لَمْ يَعُد بالقَلْبِ حُب .
وَاستَرَاحَ العَقلُ مِنِّي قَد غَفَا ... قِيلَ عَاشَ جَرِيحَ ذِكرٍ مَا شَفَى .
هَذِهِ الرّيبَــةُ كَــانَت في حَيَاتِـي لَم تَــزَل
جَعَلَتنِي أُدمِــنُ الأوجَــاعَ في لَيلِ المَــــــلَل
هَذِهِ الرِّيبَةُ أنجَبَتْ بالتِّيهِ شَكِّي وَيَقِينِي ... جَعَلتَنِي مِثلَ طِفلٍ حَائِرٍ قَد صَاحَ يَا أُمِّي خُذِينِي / فَأنا المَسجُونُ بالدُّنيَا يحُاصِرُنِي الكَمَد ... أرتجَي طَيفَ المَنَايَا كَى يُوَادِعَنِي الأبـَد .
هَذِهِ الـرّيبَـةُ طَارَدَتنِي يَومَ عَودِي وَرُجُوعِـي
حَـطَّـمَتْ في اللَّيلِ قَلبي وَضُلُوعِي
وَدَعَتنِي كَى أُصَلِّــي رَكـعَــةً في مِـلْءِ جُوعِي
فَدَعِينِي؛ إِننِي الشَّيطَانُ في وَقتِ الـنَّدَم ... أرَّقَتهُ حَسرَةُ الكُـفرَانِ زَلَّتْ بي قَـدَم .
أنا شَيْءٌ كُلُّهُ كُفرٌ وَشَك ... بـَدَّدَتهُ الـزَّفـرَةُ الأُنثَى فَصَارَ الحُكمُ لَك ... هَـذا أمرِي كُلُّهُ كُفرٌ وَشَك .
......
هَـكَـذا كُــنـتُ
ـ 60 ـ
وَلَسْتُ أُحِبُّ أنْ أعُودَ إِلَى هَذِهِ الذِّكْرَى الَّتِي أوْحَشَت نَفسِي
حتَّى صِرْتُ لا أتحَرَّكُ مَعَ مَشَاعِرِ أُنثَى مَهْمَا كَانَت دَرَجَةُ إِيمَانهَِا بِي ؛ فَلَم أعُد أعتَرِفُ بِشَيْءٍ اسمُهُ العِشْقُ ؛ وَهَذِهِ نَظرَةٌ خَاصَّةٌ لا أُنَزِّلُهَا عَلَى هَذِهِ الظَّاهِرَةِ في هَذَا العَهدِ ؛ وَإِنمَّا هِيَ عَقِيدَةٌ أعِيشُ بِهَا ؛ وَلا أُطَالِبُ أحَدًا أنْ يُنَادِي بِمَا أُقَرِّرُهُ هَا هُنَا ؛ فَإِنَّمَا أتَحَدَّثُ عَن إِنسَانٍ وَاحِدٍ كَانَ لَهُ مِنْ قَدَرِهِ أنْ آمَنَ بِشُذُوذِ القَاعِدَةِ ؛ فَإِنَّ العشْقَ آيةٌ مِن آياتِ اللهِ في هَذِهِ الأرضِ مَا دَامَ الصِّدقُ يَحُوطُهُ وَالإِخلاصُ يَرعَاهُ ؛ وَلَيسَ لِي مِن عِلَّةٍ سِوَى أنَّ قَلْبِي قَد تحَجَّرَ ؛ فَمَا وَاللهِ أتحَرَّكُ مَعَ امرَأةٍ بِقَلبِي أبَدًا وَإِنمَّا أذهَبُ بِعَقلِي مَعَهَا كَحَالِي مَعَ الرِّجَالِ ؛ وَلا يخَتَلِفُ الأمرُ إِلاَّ في طَبْعٍ تَعَوَّدَ الرِّقَّةَ مَعَ الأُنثَى ، فَإِنْ حَسِبَتْهُ حُبًّا أوْ تَعَلُّقًا ؛ فَأنا إِذَن أُحِبُّ نِسَاءَ الدُّنيَا وَأتعَلَّقُ بِهِنَّ جَمِيعًا ؛ وَالسِّرُّ في ذَلِكَ يَعُودُ ـ رُبمَّا ـ إِلَى جَرْسِ صَوْتٍ نَاعِمٍ مُتَنَاغِمٍ يَقذِفُ بِالكَلِمَةِ فَإِذَا هِيَ تَذهَبُ إِلَى أُذُنِ السَّامِعِ حيَّةً مُكتَمِلَةً نَابِضَةً ؛ وَهَذَا مِمَّا حَبَانِي اللهُ بِهِ وَلَيسَ ذَنبِي أنَّ الصَّوْتَ يَفعَلُ فِعْلَ السِّحْرِ بِالأُنثَى ؛ وَإِلاَّ فَإِنِّي لا أعرِفُ التَّخَشُّعَ لامرَأةٍ ؛ وَإِنمَّا هُوَ حَنَانٌ أجِدُهُ بِنَفسِي تُجَاهَ حَوَّاءَ الَّتِي تُحِبُّ الاقتِرَابَ مِنِّي ؛ غَيرَ أنِّي أنسَى كُلَّ شَيْءٍ مَعَ ذَهَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا إِلَى حَالِهِ ؛ وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أنكَ إِنْ رَأيتَنِي بَعدَ حَدِيثِي مَعَ المَرأةِ بِلُحَيْظَاتٍ قُلْتَ كَأنهُ لا يَعرِفُ مِنَ الحَيَاةِ سِوَى فِكرَةٍ وَاحِدَةٍ لا تَزَالُ هِيَ مَعشُوقَتهُ ؛ وَهِيَ فِكرَةُ خُلُودِ القَلَمِ ؛ وَغَايةُ الأمرِ أننِي أُحِبُّ أن أُعطِي قَلبِي لِلَحْظَةٍ فُرِضَت عَلَيَّ أوْ فَرَضتُهَا عَلَى نَفْسِي غَيرَ أنَّ عَقلِي يَكُونَ مَشغُولاً بِفِكرَةِ القَلَمِ إِلاَّ أننِي قَد تَعَوَّدتُ أنْ أُجِيدَ فِعْلَ شَيْئَينِ في وَقتٍ وَاحِدٍ مَعًا .
وَتِلْكَ الطَّبِيعَةُ إِنمَّا تَلبَّسَتْنِي بَعدَ غَدْرَةِ صَاحِبَةِ لَيْلَةِ الفُضُولِ ؛ وَقَد
مَرَّت ثَلاثُ سَنَوَاتٍ عَلَى رَحِيلِ الأُنثَى الغَادِرَةِ فَمَا وَجَدتُ بُرْأً وَلا تِرْيَاقًا .
وَتِلْكَ حِكْمَةُ القَدَرِ في صِنَاعَةِ الإِنسَانِ الرَّجُلِ .
......
هَـل كَـان حُـبًّـا ؟!
ـ 61 ـ
لَم تَزَل في السُّجُونِ رَائِحَةٌ مِن آثارِ الغَدْرَةِ الَّتِي قَد كَانَت فَالنَّفسُ
سِجنٌ ، وَالذَّاتُ سِجنٌ ، وَالهَيكَلُ سِجنٌ ، وَالعَقلُ سِجنٌ ، وَالفُؤادُ كَذَلِكَ ؛ وَرَائِحَةُ البَشَاعَةِ الَّتِي جَاءَت مِن آخِرِ أنفَاسِ صَاحِبَةِ لَيْلَةِ الفُضُولِ أفسَدَت أجوَاءَ كُلِّ هَذِهِ الصُّرُوحِ الحَزِينَةِ ؛ وَمَا بَينَ القُبْلَةِ الصَّافِيَةِ الرَّقرَاقَةِ وَبَينَ المَشهَدِ الَّذِي بَرَزَت فِيهِ أنيَابُهَا الزَّرقَاءُ وَدَمِ الشَّرِّ يَنْسَابُ مِن بَينِ ثنَايَاهَا ... مَا بَينَ هَذِهِ وَهَذَا أقفُ أَنَا !
أقِفُ وَحدِي تَحتَ جُنْحٍ مِنَ اللَّيلِ كَئِيبٍ أُوَارِي حَقِيقَةَ أمرِي في إِبَّانِ ذلِكَ .
أتَذكَّرُ ... أتَذكَّرُ كَيفَ كُنتُ طِفلاً سَاذَجًا لَعِبَتْ بِهِ امرَأةٌ لا تُبَالِي بِقِيمَةِ الصِّدقِ وَلا بِحَقِيقَةِ الحُبِّ .
أقِفُ وَحدِي أتَذكَّرُ أهَذَا الَّذِي قَد كَانَ هَلْ سَيَبقَى هَا هُنَا بَينَ
حِيطَانِ دُنيَايَ الَّتِي هِيَ نَفسِي وَبَينَ جُدرَانِ رُوحِي الَّتِي هِيَ أنَا ؟!
الفِكرَةُ الرَّهِيبَةُ مَا تَزَالُ تَعبَثُ بِأوقَاتِي فَمَا عَادَ شَيْءٌ يَصْلُحُ لِلْبَقَاءِ
فَلا المَرأةُ بَقِيَتْ وَلا أنا بَقِيتُ ؛ فَفِي سَاعَةِ المُوَاجَهَةِ ذهَبَتْ هِيَ ؛ وَلَكِنَّهَا تَرَكَتْ صُورَةَ المَرأةِ المَسْخِ وَإِنْ كَانَت وَسِيمَةً ؛ فَمَا مِنَ امرَأةٍ تَمُرُّ عَلَى طَرِيقِي إِلاَّ وَرَأيْتُ صُورَةَ المَسْخِ بِجَوفِ ضَمِيرِهَا ؛ فَلَسْتُ آمَنُ ؛ وَلَسْتُ أَصْدُقُ لأنِّي غَدَوتُ لا أُصَدِّقُ ؛ لأنِّي صِرْتُ مَعنَىً مِن مَعَانِي الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ في بَحرِ الظُّلُماتِ ؛ فَمَا وُجِدَت المَرأةُ في حَيَاتِي إِلاَّ وَوُجِدَ الشُّعُورُ بِالفَزَعِ وَرَابَطَ يَقِينٌ مَا يَزَالُ يخُبِّرُ أنَّ أشبَاحَ الضَّيَاعِ تُرَابِطُ هَا هُنَا .. تُرَابِطُ عَلَى ثُغُورِ أمكِنَتِي .
فَهَلْ كَانَ حُبًّا ؟! ... لا ... لَم يَكُن حُبًّا !
.....
كَـيفَ أجـدُ مَـا قَـد بـَعـثرتـهُ الـرِّيـاح
ـ 62ـ
أُرِيدُ أنْ أجِدَ المَرأةَ الَّتِي أبُثُّ لَهَا شَجْوِي فَتَمُرُّ الكَلِمَةُ عَلَى رُوحِهَا لا عَلَى آذَانِهَا .
أُرِيدُ أنْ أُنصِتَ لَهَا وَهِيَ تبُوحُ وَتَشكُو ؛ وَمَا تَفعَلُ ذَلِكَ إِلاَّ مَعِي
وَلَيسَ لِوُلُوعِ المَرأةِ بِحُبِّ العَطْفِ عَلَيهَا مِن أيِّ إِنسَانٍ أظهَرَ لَهَا بَعضَ حَنَانٍ .
أُرِيدُ المَرأةَ الَّتِي رَضِيَتْ أنْ تَرسُمَ صُورَتِي عَلَى لَوحَةِ تَارِيخِهَا ؛
فَتَقبَلُنِي كَمَا تَقبَلُ الأُمُّ وَلِيدَهَا الرَّجُلَ بِعُيُوبِ حَالاتِهِ وَتجُاهِدُ في محَوِهَا مِن ضَمِيرِهِ مِن قَبلِ أنْ تُعلِنَ رِضَاهَا بِحَسَنَاتِهِ وَمَا يَنمَازُ بِهِ .
أُرِيدُ مِنهَا القَلبَ الَّذِي مَا امتَلأَ بِالصُّوَرِ فَـأصَابَتْهُ لَوْثةُ الانغِمَاسِ
في عَوَالِمِ التَّناقُضِ وَأجوَاءِ الزَّيْفِ مِن كَثرَةِ مَا مَرَّ عَلَى دَربِهَا مِنْ أشكَالِ البَشَرِ وَصُورِ الأُنَاسِيِّ .
أُرِيدُ المَرأةَ الَّتِي تُدِيمُ النَّظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَلا تَلتَفِتُ إِلَى الأرضِ إِلاَّ
في تِلكَ السَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ مِن فِطرَةِ الإِنسَانِ الَّذِي خُلِقَ مِن طِينٍ ؛
فَإِذا مَا انقَضَت هَذِهِ السَّاعَاتُ عَادَت تَنظُرُ إِلَى السَّمَاءِ تَتَأَمَّلُ في حَقِيقَةِ هَذَا الوُجُودِ .
لا أُرِيدُ المَرأةَ الَّتِي لا تَلتَفِتُ إِلَى غُلافَةِ السَّمَاءِ إِلاَّ في أيامِ المِحنَةِ
حِينَمَا تُسقِطُهَا طَبِيعَتُهَا البَشَرِيَّةُ فِيمَا يجَلِبُ الغَمَّ وَالهَمَّ ؛ فَهيَ لا تَعرِفُ غَيرَ سَوَادِ جِلْدَةِ الأرضِ فَلا تَنظُرُ إِلَى عَلٍ إِلاَّ في تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الَّتِي تُشبِهُ لَحَظَاتِ وُقُوفِ العَبْدِ عَلَى بَابِ سيِّدِهِ يَطلُبُ أمرًا مِن أُمُورِ الدُّنيَا فَإِذَا مَا لبَّاهُ لَهُ السيِّدُ العَطُوفُ الحَنُونُ عَادَ العَبْدُ إِلَى حَيَاتِهِ الأُولَى وَارتَدَّ سَعِيدًا فَرِحًا وَنَسِىَ مَصْدَرَ هَذِهِ السَّعَادَةِ وَغَفَلَ عَن صَانِعِ هَذَا الفَرَحِ .
أُرِيدُ وَأُرِيدُ !
أُرِيدُ القُبْلَةَ مِن فَمِ المَرأةِ حِينَ تَرَانِي رَاغِبًا في ثنَايَاهَا فَتُقبِلُ مُنتَشِيَةً
وَادِعَةً بَاسِمَةً تُرِيدُ إِعلانَ دَلائِلِ الصِّدقِ وَإِقَامَةَ شَعَائِرِ الإِخلاصِ .
وَلَستُ أُرِيدُ المَرأةَ الَّتِي لا تَرَى في الرَّجُلِ سِوَى شَفَتَينِ لِلتَّقبِيلِ
وَسِوَى جَسَدٍ يَقُومُ بِفُرُوضِ الصَّلاةِ الطِّينِيَّةِ مَعَهَا فَإِذا مَا انقَضَى أمرُ هَذَا القُدَّاسِ فَتَرَت النُّفُوسُ وَكَأنهَّا لا تَرَى العِشقَ إِلاَّ في هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي هِيَ مَحضُ غُصْنٍ مِن غُصُونِ شَجَرَةِ الحُبِّ الَّتِي مَا نَشَأتْ إِلاَّ
بِالحُبِّ وَلا تَزُولُ يَومَ تَزُولُ إِلاَّ وَهِيَ مُؤمِنَةٌ بِذَلِكَ الحُبِّ .
أُرِيدُ وَأُرِيدُ !
أُرِيدُ المَرأةَ ؛ غَيرَ أنِّي أُرِيدُ نَفسِي ؛ وإِنِّ نَفسِي الَّتِي أُرِيدُ الحِفَاظَ
عَلَيْهَا لا تُؤمِنُ بِوُجُوبِ وُجُودِ هَذِهِ المَرأةِ في حَيَاتِي .
فَكَيفَ نَلتَقِي ؟! ... كَيفَ نَلتَقِي ؟!
كَيفَ أجِدُ ... مَا قَد بَعثَرَتهُ الرِّياحُ ؟!
........
رَعَـى اللهُ يـَومـًا
ـ 63 ـ
ألا لَيْتَ شِعرِي هَلْ أُصَادِفُ خُلْوَةً
لَدَيْكَ ؛ فَأشكُو بَعضَ مَا أنا واجِدُ ؟!
رَعَى اللهُ يَومًا فِيهِ أشكُو صَبَابَتِي
وَأجفَانُ عَينِي بِالدُّمُوعِ شَوَاهِدُ
ـ ابْنُ زَيـــْدُون ـ
وَإِذَا كَثُرَتِ الوُجُوهُ عَلَى مِرْآةِ العَينِ وَتَعَدَّدتِ الصُّوَرُ إِلَى مَا لا
يُحتَمَلُ ؛ تَعَكَّرَ القَلبُ فَفَقَدَ مَزِيَّةَ التَّأثُّرِ ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ ضَرُوبِ القُوَّةِ وَهُوَ مَظهَرٌ مِن مَظَاهِرِ ظُلْمِ الفَتَى لِنَفسِهِ وَتَحقِيقِ عَينِ الغَبَنِ في أمرِ حَالِهِ وَشَأنِهِ ؛ فَأمَّا عَن القُوَّةِ فَذَاكَ لانعِدَامِ الشُّعُورِ بِصِدقِ الآخَرِ وَصَفَاءِ بَاطِنِهِ مَهْمَا كَانَت دَرَجَةُ الانسِجَامِ وَالمَوَدَّةِ فَمَنْ جَرَّبَ تجَرِبَتِي آمَنَ بِقَضِيَّتِي ؛ وَهِيَ النَّظَرُ إِلَى الأُنثَى مِنْ بَعِيدٍ مَهْمَا كَانَت قَرِيبَةً ؛ وَلا يَعْدُو الأمرُ عِندِي أنْ يَكُونَ محَضَ تجَرِبَةٍ لا تخَتَلِفُ عَنْ أيِّ تجَرِبَةٍ مِن جِهَةِ المَعنَى وَإِن اختَلَفَتْ صُوَرُ الحَالاتِ ؛ فَأنتَ تَنظُرُ إِلَى هَذَا القَلبِ فَلا تَرَى سِوَى رَهَافَةٍ وَحَنَانٍ وَرِقَّةٍ ؛ غَيرَ أنهُ طَبْعٌ لا أقدِرُ عَلَى تَغييرِهِ ؛ وَلَكِنَّكَ مَتَى تجَوَّفتَهُ لَم تَرَهُ يَمِيلُ إِلَى أحَدٍ أبَدًا ؛ وَدَلِيلُ ذَلِكَ أنهُ يَمِيلُ وَيَتَمَايَلُ مَعَ الجَمِيعِ ؛ وَالعِشقُ في مَعنَاهُ الحَقِيقِيِّ لا يُقِرُّ مِثلَ هَذَا ؛ فَآمَنْتَ حِينَئِذٍ أنهُ مَا عَادَ يَعرِفُ الصِّدْقَ في الهَوَى ؛ بَلْ قُلْ لَقَد أضحَى عَاجِزًا عَنْهُ بِسَبَبِ مَا أحدَثهُ الزَّمَانُ وَمَا فَرَضَتهُ الأيامُ ؛ وَأمَّا عَن أمرِ ظُلْمِهِ لِنَفسِهِ فَذَلِكَ مَرَدُّهُ إِلَى أمرَيْنِ .
أمَّا عَنِ الأمرِ الأوَّلِ فَهُوَ لِمَا استَقَرَّ في نَفسِهِ عَقِيبَ تجَرِبَتِهِ مَعَ سيِّدَةِ لَيْلَةِ الفُضُولِ ؛ وَأمَّا عَنِ الثانِي فَلأنهُ تَرَكَ قَلبَهُ لِلرِّيحِ فَالرِّيحُ تَعبَثُ بِهِ وَهُوَ يَلهُو مَعَ الرِّيحِ وَلا يَمَلُّ مِن ذَلِكَ إِذ قَد آمَنَ بِأنهُ صَارَ مِن جِهَةِ العِشقِ كَالجُلْمُودِ لا يَشعُرُ وَلا يَألَمُ وَلا يَفرَحُ وَلا يَحُسُّ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ أوقَاتٌ تَفرِضُ نَفسَهَا فَنَنشَغِلُ بِهَا فَإِذَا مَا مَضَت انشَغَلنَا عَنهَا وَكَأنهَّا لَم تَكُن وَكَأنهَّا مَا حَدَثت وَيْكَأنَّ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ إِنَّمَا هُوَ كَحُلْمٍ اقتَحَمَ غَفْوَةً مِن غَفَوَاتِي ثُمَّ مَضَى لِسَبِيلِهِ لا أذكُرُ مِنهُ شَيْئًا .
مَـنَـعـتُ لِـسَـانَ أسـئِـلَـتِي
ـ 57 ـ
وَكَانَ اللَّيْلُ قُدَّاسًا لأوْرِدَتِي
وَكَانَ الحُلْمُ لا يَغفُو مِنَ
الوَجَعِ
رَفَعتُ نِدَاءَ أيامِي وَمَرْثِيتِي
أُعَانِقُ شَهْقَةَ الحِرمَانِ
وَالفَزَعِ
وَجِئْتُ أُلَمْلِمُ الرُّؤيَا
رَأيْتُ الحَظَّ لَم يَسقُط
وَلَم يَقَعِ
وَرُحتُ أُدَافِعُ الأوجَاعَ
أنزَحُهَا
كَنَزْحِ المَاءِ مِنْ فَوقِ
الخُدُودِ سَرَى
رَأيْتُ العِشقَ أُغنِيَةً
وَمَا تُبْصِرْهُ أفئِدَةٌ
وَلَكِنَّ العُيُونَ تَرَى
وَعَاشَ الحُبُّ في رِئَتِي
أُدَندِنُ حَولَهُ سَغِبًا
وَأشكُوهُ بِجَوفِ عَرَا
وَرُحتُ أعُدُّ أقلامِي
عَسَاهَا تَرصُدُ الوَاقِعْ
وَجَاءَ صَدَاهُ مِن زَمَنٍ
كَمَنزُوعٍ بِلا نَازِعْ
يُخَبِّرُ أننِي هَدَفٌ
لِسَهْمٍ جَاءَ كَالجَائِعْ
أصَابَ بِفَجأةٍ كَبِدِي
وَقَالَ : شَرِيعَةُ الشَّارِعْ
بِأنْ تُغتَالَ عَنْ عَمَدٍ
لِيَصْمُتَ خَطْوكَ البَارِعْ
مَنَعْتُ لِسَانَ أسئِلَتِي
وَلَم أسْألْ عَن الدَّافِعْ
وَسِرْتُ مُفَوِّضًا قَدَرِي
فَتِلْكَ مَشِيئَةُ الصَّانِعْ
.......
انـفـِصَـالٌ عَــن الأحـدَاث
صَـوتُ هَـذَا الكَـــرَوَان
ـ 58 ـ
هَا أنا قَبلَ فَجرِ اللهِ بمُِنتَصَفِ إِبرِيل 2018 ... أجلِسُ بجِانِبِ النَّافِذِةِ أكتُبُ وَأكتُبُ ، أغِيبُ عَن هَذَا العَالَمِ البَشَرِيِّ الزَّائِفِ ، وَفَجأةً سَمِعتُ صَوتَ الكَرَوَانِ وَهُوَ يَملأُ صَمتَ هَذَا الكَونِ لِيَعُودَ بِي إِلَى زَمَنٍ لَم أستَطِع أن أُفلِتَ مِنهُ ، لأنهُ زَمَنُ الفِطرَةِ وَالسَّذَاجَةِ وَالطَّبِيعَةِ الأُولَى ، لأعُودَ إِلَى عَامِ 1987 ، في هَذَا الزَّمَنِ حَيثُ كَانَ الغَيبُ يَطوِي عَن نَظرَتِي ووجدَانِي مَا سَيَكُونُ بَعدَ ثَلاثِينَ سَنَة ، فَكُنتُ هُنَاكَ طِفلاً لَمْ يَكبُر ، طِفلاً لَم تُعكِّر نَفسَهُ آفَاتُ هَذِهِ الحَضَارَةِ .
وَآهٍ مِن هَذِهِ الحَضَارَةِ وَآهٍ مِمَّا أنتَجَت !
لَم أكُن يَومَئِذٍ في حَاجَةٍ إِلَى قِرَاءَةِ كُتُبِ أُدباءِ السُّمُوِّ الإِنسَانِيِّ وَأربَابِ الحَدِيثِ عَن جمَالِ الوجُودِ الأوَّلِ ؛ فَقَد كَانَت الطَّبيعَةُ تجُسِّدُ ذَلِكَ حَقِيقَةً لا سَطرًا مُزيَّفًا مَهمَا رَامَ لا يُصَوِّرُ ... هُنَاكَ حَيثُ كُنتُ غَضًّا طَرِيًّا نَقِيًّا لَم تُلَوِّث أفكَارِي وَمَشَاعِرِي هَذِهِ الدُّنيَا الَّتِي أتَت بَعدَ ثَلاثِينَ سَنَة ، لَم أقدِر إِلَى يَومِي هَذَا أن أستَوعِبَ مَعنَى حَقِيقَةِ وجُودِي الآنَ ... أأنا هَذَا الأدِيبُ الَّذِي عَاشَ هُنَاكَ لِسَنَوَاتٍ فَقَاتَلَ وَحَارَبَ وَأذَلَّ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ وَأخضَعَ العُقُولَ ، وَعَشِقَ حتَّى مَلَّ ، وَانتَشَرَتْ كُتُبُهُ وَمَقَالاتُهُ فَمَا يَكتُبُ شَييئًا حتَّى يُسَارِعَ النَّاشِرُونَ إِلَى نَشرِهِ ، وَكَتَبَ عَنهُ النَّاسُ في دُنيَا الأدَبِ وَأُولِعُوا بِذَلِكَ حتَّى لَكَأنِّي تعويذَةٌ لا تَخِيبُ ؟!
أهَذَا هُوَ أنا ؟!
نَعَم هُوَ أنا ، وَجَلَّ مَن بَرَانِي ، وَللهِ حِكمَةٌ مِن وَرَاءِ خَلقِهِ إِياي .
لَكِنِّي في نِهَايةِ الأمرِ مَا كُنتُ أُرِيدُ هَذِهِ الْحَيَاةَ ، نَعَم مَا كُنتُ أُرِيدُهَا .
مَا كُنتُ أُرِيدُ حَيَاةً لا يُقبِلُ عَلَيهَا إِلاَّ كُلُّ ضَعِيفِ العَقلِ فَاقِدٍ لِلحِكمَةِ ، وَمَا أقبَلتُ عَلَيهَا إِلاَّ لأننِي كُنتُ مجُبَرًا ، وَلَوْ وَجَدتُ قَبلَ خُرُوجِي إِلَيهَا مَا يُقِيمُ أمرِي لَرَضِيتُ بِالكَفَافِ وَمَا خَرَجتُ ، وَتِلكَ حِكمَةٌ عَجِيبَةٌ ، يُعطِي الولايةَ لِمَن لَم يَنظُر إِلَيهَا وَيُحرَمُهَا مَن قَاتَلَ مِن أجلِهَا ... غَيرَ أنِّي لا أُخرِجُ مِن يَدِي مَا وَصَلَ إِلَيهَا إِلاَّ بِالحَقِّ ، وَالحَقُّ في هَذِهِ الأرضِ مَعدُومٌ ، فَقَدَرِي أن أُقَاتِلَ دِفَاعًا عَن هِبَةٍ إِلهِيَّةٍ وَلَستُ أنا مَن يَنزَعُ عَن نَفسِهِ قَمِيصًا قَمَّصَنِيهِ اللهُ وَالقَدَرُ .
لَكِنِّي في النِّهايةِ أكرَهُ نَفسِي !
نَعَم أنا أكرَهُ نَفسِي لأننِي مَا زِلتُ أحُنُّ إِلَى ابنِ عَامِ 1987 ، أحُنُّ إِلَى هَذَا الصَّبِيِّ الطيِّبِ الْحَالِمِ عَلَى مَا يَنتَابُهُ مِن أفكَارٍ مُخِيفَةٍ تَدُلُّ عَلَى طَبِيعَتِهِ العَصَبِيَّةِ .
فَهُوَ يَسألُ القَمَرَ عَن هَؤلاءِ العُظَمَاءِ الَّذِينَ مَرُّوا مِن هُنَا في غَابِرِ الأزمَانِ ، وَهُوَ يَنظُرُ إِلَى النُّجُومِ يُطَالِبُهَا أن تُحَدِّثهُ عَن قَدَرِهِ الَّذِي يَكُونُ إِذَا مَا مَضَت السُّنُونُ ، وَهُوَ يَرقُبُ في اللَّيلِ شَيطَانَ القِندِيلِ ، وَيُنصِتُ إِلَى عِوَاءِ الذِّئبِ إِذ يَختَرِقُ اللَّيلَ السَّاكِنَ يُرِيدُ أن يَعرِفَ أنيَابُهُ مَن مَزَّقَت مِن أهلِ النُّبلِ وَالطُّمُوحِ وَأهلِ الوضَاعَةِ وَالظُّلمِ ، وَيمَضِي خَلفَ ثعَابِينِ الظَّهِيرَةِ يَتَأمَّلُ مَن مِنهَا يَسكُنُهُ الجِنُّ .
يَزعُمُ النَّاسُ أنهُ لا يجُيدُ العِشقَ ، وَقَد جَهِلُوا أنَّ مَن يَكرَهُ وَاقِعَهُ لا يَقدِرُ عَلَى عِشقٍ شِيْءٍ مِن مُفرَدَاتِ هَذَا الوَاقِعِ .
مَا زِلتُ مَأسُورًا هُنَاك ... بَينَ جُدرَانِ زَمَنٍ لا أُحِبُّ أن أُفَارِقَه .
.......
هَـذِهِ الـرِّيـبَـةُ بـِنتُ الـظُّــلُـمَـات
ـ 59 ـ
هَذِهِ الرِّيبَةُ في نَفسِي بنتُ الظُّلُمَاتِ ... أنتَجَتهَا صَرخَةُ الْمَوجُوعِ مِن قَلبِ الشَّتاتِ / هِيَ دَمعِي وَدُمُوعِي بَعضُ أسرَابِ المِدَاد ... ذلِكَ العُمْرُ الجَرِيحُ أرَاهُ يَمضِي لِلنَّفَاد .
لا تَسَلنِي كَيفَ صِرتَ اليَومَ مِن بَعدِ الْجَمَالِ المُشتَهَى ... كُنتُ شَيئًا ذاتَ يَومٍ قَد زَهَا .
إِننِي المَطعُونُ لَم يُسعِفنِي طِب ... لا تَسَلنِي لَمْ يَعُد بالقَلْبِ حُب .
وَاستَرَاحَ العَقلُ مِنِّي قَد غَفَا ... قِيلَ عَاشَ جَرِيحَ ذِكرٍ مَا شَفَى .
هَذِهِ الرّيبَــةُ كَــانَت في حَيَاتِـي لَم تَــزَل
جَعَلَتنِي أُدمِــنُ الأوجَــاعَ في لَيلِ المَــــــلَل
هَذِهِ الرِّيبَةُ أنجَبَتْ بالتِّيهِ شَكِّي وَيَقِينِي ... جَعَلتَنِي مِثلَ طِفلٍ حَائِرٍ قَد صَاحَ يَا أُمِّي خُذِينِي / فَأنا المَسجُونُ بالدُّنيَا يحُاصِرُنِي الكَمَد ... أرتجَي طَيفَ المَنَايَا كَى يُوَادِعَنِي الأبـَد .
هَذِهِ الـرّيبَـةُ طَارَدَتنِي يَومَ عَودِي وَرُجُوعِـي
حَـطَّـمَتْ في اللَّيلِ قَلبي وَضُلُوعِي
وَدَعَتنِي كَى أُصَلِّــي رَكـعَــةً في مِـلْءِ جُوعِي
فَدَعِينِي؛ إِننِي الشَّيطَانُ في وَقتِ الـنَّدَم ... أرَّقَتهُ حَسرَةُ الكُـفرَانِ زَلَّتْ بي قَـدَم .
أنا شَيْءٌ كُلُّهُ كُفرٌ وَشَك ... بـَدَّدَتهُ الـزَّفـرَةُ الأُنثَى فَصَارَ الحُكمُ لَك ... هَـذا أمرِي كُلُّهُ كُفرٌ وَشَك .
......
هَـكَـذا كُــنـتُ
ـ 60 ـ
وَلَسْتُ أُحِبُّ أنْ أعُودَ إِلَى هَذِهِ الذِّكْرَى الَّتِي أوْحَشَت نَفسِي
حتَّى صِرْتُ لا أتحَرَّكُ مَعَ مَشَاعِرِ أُنثَى مَهْمَا كَانَت دَرَجَةُ إِيمَانهَِا بِي ؛ فَلَم أعُد أعتَرِفُ بِشَيْءٍ اسمُهُ العِشْقُ ؛ وَهَذِهِ نَظرَةٌ خَاصَّةٌ لا أُنَزِّلُهَا عَلَى هَذِهِ الظَّاهِرَةِ في هَذَا العَهدِ ؛ وَإِنمَّا هِيَ عَقِيدَةٌ أعِيشُ بِهَا ؛ وَلا أُطَالِبُ أحَدًا أنْ يُنَادِي بِمَا أُقَرِّرُهُ هَا هُنَا ؛ فَإِنَّمَا أتَحَدَّثُ عَن إِنسَانٍ وَاحِدٍ كَانَ لَهُ مِنْ قَدَرِهِ أنْ آمَنَ بِشُذُوذِ القَاعِدَةِ ؛ فَإِنَّ العشْقَ آيةٌ مِن آياتِ اللهِ في هَذِهِ الأرضِ مَا دَامَ الصِّدقُ يَحُوطُهُ وَالإِخلاصُ يَرعَاهُ ؛ وَلَيسَ لِي مِن عِلَّةٍ سِوَى أنَّ قَلْبِي قَد تحَجَّرَ ؛ فَمَا وَاللهِ أتحَرَّكُ مَعَ امرَأةٍ بِقَلبِي أبَدًا وَإِنمَّا أذهَبُ بِعَقلِي مَعَهَا كَحَالِي مَعَ الرِّجَالِ ؛ وَلا يخَتَلِفُ الأمرُ إِلاَّ في طَبْعٍ تَعَوَّدَ الرِّقَّةَ مَعَ الأُنثَى ، فَإِنْ حَسِبَتْهُ حُبًّا أوْ تَعَلُّقًا ؛ فَأنا إِذَن أُحِبُّ نِسَاءَ الدُّنيَا وَأتعَلَّقُ بِهِنَّ جَمِيعًا ؛ وَالسِّرُّ في ذَلِكَ يَعُودُ ـ رُبمَّا ـ إِلَى جَرْسِ صَوْتٍ نَاعِمٍ مُتَنَاغِمٍ يَقذِفُ بِالكَلِمَةِ فَإِذَا هِيَ تَذهَبُ إِلَى أُذُنِ السَّامِعِ حيَّةً مُكتَمِلَةً نَابِضَةً ؛ وَهَذَا مِمَّا حَبَانِي اللهُ بِهِ وَلَيسَ ذَنبِي أنَّ الصَّوْتَ يَفعَلُ فِعْلَ السِّحْرِ بِالأُنثَى ؛ وَإِلاَّ فَإِنِّي لا أعرِفُ التَّخَشُّعَ لامرَأةٍ ؛ وَإِنمَّا هُوَ حَنَانٌ أجِدُهُ بِنَفسِي تُجَاهَ حَوَّاءَ الَّتِي تُحِبُّ الاقتِرَابَ مِنِّي ؛ غَيرَ أنِّي أنسَى كُلَّ شَيْءٍ مَعَ ذَهَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا إِلَى حَالِهِ ؛ وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أنكَ إِنْ رَأيتَنِي بَعدَ حَدِيثِي مَعَ المَرأةِ بِلُحَيْظَاتٍ قُلْتَ كَأنهُ لا يَعرِفُ مِنَ الحَيَاةِ سِوَى فِكرَةٍ وَاحِدَةٍ لا تَزَالُ هِيَ مَعشُوقَتهُ ؛ وَهِيَ فِكرَةُ خُلُودِ القَلَمِ ؛ وَغَايةُ الأمرِ أننِي أُحِبُّ أن أُعطِي قَلبِي لِلَحْظَةٍ فُرِضَت عَلَيَّ أوْ فَرَضتُهَا عَلَى نَفْسِي غَيرَ أنَّ عَقلِي يَكُونَ مَشغُولاً بِفِكرَةِ القَلَمِ إِلاَّ أننِي قَد تَعَوَّدتُ أنْ أُجِيدَ فِعْلَ شَيْئَينِ في وَقتٍ وَاحِدٍ مَعًا .
وَتِلْكَ الطَّبِيعَةُ إِنمَّا تَلبَّسَتْنِي بَعدَ غَدْرَةِ صَاحِبَةِ لَيْلَةِ الفُضُولِ ؛ وَقَد
مَرَّت ثَلاثُ سَنَوَاتٍ عَلَى رَحِيلِ الأُنثَى الغَادِرَةِ فَمَا وَجَدتُ بُرْأً وَلا تِرْيَاقًا .
وَتِلْكَ حِكْمَةُ القَدَرِ في صِنَاعَةِ الإِنسَانِ الرَّجُلِ .
......
هَـل كَـان حُـبًّـا ؟!
ـ 61 ـ
لَم تَزَل في السُّجُونِ رَائِحَةٌ مِن آثارِ الغَدْرَةِ الَّتِي قَد كَانَت فَالنَّفسُ
سِجنٌ ، وَالذَّاتُ سِجنٌ ، وَالهَيكَلُ سِجنٌ ، وَالعَقلُ سِجنٌ ، وَالفُؤادُ كَذَلِكَ ؛ وَرَائِحَةُ البَشَاعَةِ الَّتِي جَاءَت مِن آخِرِ أنفَاسِ صَاحِبَةِ لَيْلَةِ الفُضُولِ أفسَدَت أجوَاءَ كُلِّ هَذِهِ الصُّرُوحِ الحَزِينَةِ ؛ وَمَا بَينَ القُبْلَةِ الصَّافِيَةِ الرَّقرَاقَةِ وَبَينَ المَشهَدِ الَّذِي بَرَزَت فِيهِ أنيَابُهَا الزَّرقَاءُ وَدَمِ الشَّرِّ يَنْسَابُ مِن بَينِ ثنَايَاهَا ... مَا بَينَ هَذِهِ وَهَذَا أقفُ أَنَا !
أقِفُ وَحدِي تَحتَ جُنْحٍ مِنَ اللَّيلِ كَئِيبٍ أُوَارِي حَقِيقَةَ أمرِي في إِبَّانِ ذلِكَ .
أتَذكَّرُ ... أتَذكَّرُ كَيفَ كُنتُ طِفلاً سَاذَجًا لَعِبَتْ بِهِ امرَأةٌ لا تُبَالِي بِقِيمَةِ الصِّدقِ وَلا بِحَقِيقَةِ الحُبِّ .
أقِفُ وَحدِي أتَذكَّرُ أهَذَا الَّذِي قَد كَانَ هَلْ سَيَبقَى هَا هُنَا بَينَ
حِيطَانِ دُنيَايَ الَّتِي هِيَ نَفسِي وَبَينَ جُدرَانِ رُوحِي الَّتِي هِيَ أنَا ؟!
الفِكرَةُ الرَّهِيبَةُ مَا تَزَالُ تَعبَثُ بِأوقَاتِي فَمَا عَادَ شَيْءٌ يَصْلُحُ لِلْبَقَاءِ
فَلا المَرأةُ بَقِيَتْ وَلا أنا بَقِيتُ ؛ فَفِي سَاعَةِ المُوَاجَهَةِ ذهَبَتْ هِيَ ؛ وَلَكِنَّهَا تَرَكَتْ صُورَةَ المَرأةِ المَسْخِ وَإِنْ كَانَت وَسِيمَةً ؛ فَمَا مِنَ امرَأةٍ تَمُرُّ عَلَى طَرِيقِي إِلاَّ وَرَأيْتُ صُورَةَ المَسْخِ بِجَوفِ ضَمِيرِهَا ؛ فَلَسْتُ آمَنُ ؛ وَلَسْتُ أَصْدُقُ لأنِّي غَدَوتُ لا أُصَدِّقُ ؛ لأنِّي صِرْتُ مَعنَىً مِن مَعَانِي الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ في بَحرِ الظُّلُماتِ ؛ فَمَا وُجِدَت المَرأةُ في حَيَاتِي إِلاَّ وَوُجِدَ الشُّعُورُ بِالفَزَعِ وَرَابَطَ يَقِينٌ مَا يَزَالُ يخُبِّرُ أنَّ أشبَاحَ الضَّيَاعِ تُرَابِطُ هَا هُنَا .. تُرَابِطُ عَلَى ثُغُورِ أمكِنَتِي .
فَهَلْ كَانَ حُبًّا ؟! ... لا ... لَم يَكُن حُبًّا !
.....
كَـيفَ أجـدُ مَـا قَـد بـَعـثرتـهُ الـرِّيـاح
ـ 62ـ
أُرِيدُ أنْ أجِدَ المَرأةَ الَّتِي أبُثُّ لَهَا شَجْوِي فَتَمُرُّ الكَلِمَةُ عَلَى رُوحِهَا لا عَلَى آذَانِهَا .
أُرِيدُ أنْ أُنصِتَ لَهَا وَهِيَ تبُوحُ وَتَشكُو ؛ وَمَا تَفعَلُ ذَلِكَ إِلاَّ مَعِي
وَلَيسَ لِوُلُوعِ المَرأةِ بِحُبِّ العَطْفِ عَلَيهَا مِن أيِّ إِنسَانٍ أظهَرَ لَهَا بَعضَ حَنَانٍ .
أُرِيدُ المَرأةَ الَّتِي رَضِيَتْ أنْ تَرسُمَ صُورَتِي عَلَى لَوحَةِ تَارِيخِهَا ؛
فَتَقبَلُنِي كَمَا تَقبَلُ الأُمُّ وَلِيدَهَا الرَّجُلَ بِعُيُوبِ حَالاتِهِ وَتجُاهِدُ في محَوِهَا مِن ضَمِيرِهِ مِن قَبلِ أنْ تُعلِنَ رِضَاهَا بِحَسَنَاتِهِ وَمَا يَنمَازُ بِهِ .
أُرِيدُ مِنهَا القَلبَ الَّذِي مَا امتَلأَ بِالصُّوَرِ فَـأصَابَتْهُ لَوْثةُ الانغِمَاسِ
في عَوَالِمِ التَّناقُضِ وَأجوَاءِ الزَّيْفِ مِن كَثرَةِ مَا مَرَّ عَلَى دَربِهَا مِنْ أشكَالِ البَشَرِ وَصُورِ الأُنَاسِيِّ .
أُرِيدُ المَرأةَ الَّتِي تُدِيمُ النَّظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَلا تَلتَفِتُ إِلَى الأرضِ إِلاَّ
في تِلكَ السَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ مِن فِطرَةِ الإِنسَانِ الَّذِي خُلِقَ مِن طِينٍ ؛
فَإِذا مَا انقَضَت هَذِهِ السَّاعَاتُ عَادَت تَنظُرُ إِلَى السَّمَاءِ تَتَأَمَّلُ في حَقِيقَةِ هَذَا الوُجُودِ .
لا أُرِيدُ المَرأةَ الَّتِي لا تَلتَفِتُ إِلَى غُلافَةِ السَّمَاءِ إِلاَّ في أيامِ المِحنَةِ
حِينَمَا تُسقِطُهَا طَبِيعَتُهَا البَشَرِيَّةُ فِيمَا يجَلِبُ الغَمَّ وَالهَمَّ ؛ فَهيَ لا تَعرِفُ غَيرَ سَوَادِ جِلْدَةِ الأرضِ فَلا تَنظُرُ إِلَى عَلٍ إِلاَّ في تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الَّتِي تُشبِهُ لَحَظَاتِ وُقُوفِ العَبْدِ عَلَى بَابِ سيِّدِهِ يَطلُبُ أمرًا مِن أُمُورِ الدُّنيَا فَإِذَا مَا لبَّاهُ لَهُ السيِّدُ العَطُوفُ الحَنُونُ عَادَ العَبْدُ إِلَى حَيَاتِهِ الأُولَى وَارتَدَّ سَعِيدًا فَرِحًا وَنَسِىَ مَصْدَرَ هَذِهِ السَّعَادَةِ وَغَفَلَ عَن صَانِعِ هَذَا الفَرَحِ .
أُرِيدُ وَأُرِيدُ !
أُرِيدُ القُبْلَةَ مِن فَمِ المَرأةِ حِينَ تَرَانِي رَاغِبًا في ثنَايَاهَا فَتُقبِلُ مُنتَشِيَةً
وَادِعَةً بَاسِمَةً تُرِيدُ إِعلانَ دَلائِلِ الصِّدقِ وَإِقَامَةَ شَعَائِرِ الإِخلاصِ .
وَلَستُ أُرِيدُ المَرأةَ الَّتِي لا تَرَى في الرَّجُلِ سِوَى شَفَتَينِ لِلتَّقبِيلِ
وَسِوَى جَسَدٍ يَقُومُ بِفُرُوضِ الصَّلاةِ الطِّينِيَّةِ مَعَهَا فَإِذا مَا انقَضَى أمرُ هَذَا القُدَّاسِ فَتَرَت النُّفُوسُ وَكَأنهَّا لا تَرَى العِشقَ إِلاَّ في هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي هِيَ مَحضُ غُصْنٍ مِن غُصُونِ شَجَرَةِ الحُبِّ الَّتِي مَا نَشَأتْ إِلاَّ
بِالحُبِّ وَلا تَزُولُ يَومَ تَزُولُ إِلاَّ وَهِيَ مُؤمِنَةٌ بِذَلِكَ الحُبِّ .
أُرِيدُ وَأُرِيدُ !
أُرِيدُ المَرأةَ ؛ غَيرَ أنِّي أُرِيدُ نَفسِي ؛ وإِنِّ نَفسِي الَّتِي أُرِيدُ الحِفَاظَ
عَلَيْهَا لا تُؤمِنُ بِوُجُوبِ وُجُودِ هَذِهِ المَرأةِ في حَيَاتِي .
فَكَيفَ نَلتَقِي ؟! ... كَيفَ نَلتَقِي ؟!
كَيفَ أجِدُ ... مَا قَد بَعثَرَتهُ الرِّياحُ ؟!
........
رَعَـى اللهُ يـَومـًا
ـ 63 ـ
ألا لَيْتَ شِعرِي هَلْ أُصَادِفُ خُلْوَةً
لَدَيْكَ ؛ فَأشكُو بَعضَ مَا أنا واجِدُ ؟!
رَعَى اللهُ يَومًا فِيهِ أشكُو صَبَابَتِي
وَأجفَانُ عَينِي بِالدُّمُوعِ شَوَاهِدُ
ـ ابْنُ زَيـــْدُون ـ
وَإِذَا كَثُرَتِ الوُجُوهُ عَلَى مِرْآةِ العَينِ وَتَعَدَّدتِ الصُّوَرُ إِلَى مَا لا
يُحتَمَلُ ؛ تَعَكَّرَ القَلبُ فَفَقَدَ مَزِيَّةَ التَّأثُّرِ ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ ضَرُوبِ القُوَّةِ وَهُوَ مَظهَرٌ مِن مَظَاهِرِ ظُلْمِ الفَتَى لِنَفسِهِ وَتَحقِيقِ عَينِ الغَبَنِ في أمرِ حَالِهِ وَشَأنِهِ ؛ فَأمَّا عَن القُوَّةِ فَذَاكَ لانعِدَامِ الشُّعُورِ بِصِدقِ الآخَرِ وَصَفَاءِ بَاطِنِهِ مَهْمَا كَانَت دَرَجَةُ الانسِجَامِ وَالمَوَدَّةِ فَمَنْ جَرَّبَ تجَرِبَتِي آمَنَ بِقَضِيَّتِي ؛ وَهِيَ النَّظَرُ إِلَى الأُنثَى مِنْ بَعِيدٍ مَهْمَا كَانَت قَرِيبَةً ؛ وَلا يَعْدُو الأمرُ عِندِي أنْ يَكُونَ محَضَ تجَرِبَةٍ لا تخَتَلِفُ عَنْ أيِّ تجَرِبَةٍ مِن جِهَةِ المَعنَى وَإِن اختَلَفَتْ صُوَرُ الحَالاتِ ؛ فَأنتَ تَنظُرُ إِلَى هَذَا القَلبِ فَلا تَرَى سِوَى رَهَافَةٍ وَحَنَانٍ وَرِقَّةٍ ؛ غَيرَ أنهُ طَبْعٌ لا أقدِرُ عَلَى تَغييرِهِ ؛ وَلَكِنَّكَ مَتَى تجَوَّفتَهُ لَم تَرَهُ يَمِيلُ إِلَى أحَدٍ أبَدًا ؛ وَدَلِيلُ ذَلِكَ أنهُ يَمِيلُ وَيَتَمَايَلُ مَعَ الجَمِيعِ ؛ وَالعِشقُ في مَعنَاهُ الحَقِيقِيِّ لا يُقِرُّ مِثلَ هَذَا ؛ فَآمَنْتَ حِينَئِذٍ أنهُ مَا عَادَ يَعرِفُ الصِّدْقَ في الهَوَى ؛ بَلْ قُلْ لَقَد أضحَى عَاجِزًا عَنْهُ بِسَبَبِ مَا أحدَثهُ الزَّمَانُ وَمَا فَرَضَتهُ الأيامُ ؛ وَأمَّا عَن أمرِ ظُلْمِهِ لِنَفسِهِ فَذَلِكَ مَرَدُّهُ إِلَى أمرَيْنِ .
أمَّا عَنِ الأمرِ الأوَّلِ فَهُوَ لِمَا استَقَرَّ في نَفسِهِ عَقِيبَ تجَرِبَتِهِ مَعَ سيِّدَةِ لَيْلَةِ الفُضُولِ ؛ وَأمَّا عَنِ الثانِي فَلأنهُ تَرَكَ قَلبَهُ لِلرِّيحِ فَالرِّيحُ تَعبَثُ بِهِ وَهُوَ يَلهُو مَعَ الرِّيحِ وَلا يَمَلُّ مِن ذَلِكَ إِذ قَد آمَنَ بِأنهُ صَارَ مِن جِهَةِ العِشقِ كَالجُلْمُودِ لا يَشعُرُ وَلا يَألَمُ وَلا يَفرَحُ وَلا يَحُسُّ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ أوقَاتٌ تَفرِضُ نَفسَهَا فَنَنشَغِلُ بِهَا فَإِذَا مَا مَضَت انشَغَلنَا عَنهَا وَكَأنهَّا لَم تَكُن وَكَأنهَّا مَا حَدَثت وَيْكَأنَّ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ إِنَّمَا هُوَ كَحُلْمٍ اقتَحَمَ غَفْوَةً مِن غَفَوَاتِي ثُمَّ مَضَى لِسَبِيلِهِ لا أذكُرُ مِنهُ شَيْئًا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق